لقاء مع أصغر عالم فضاء سوداني (قبل 19 سنة) .
لقاء مع أصغر عالم فضاء سوداني (قبل 19 سنة)..
▪️الطفل أيمن: سأكتشف (لكم) كوكباً ولو بعد حين!
▪️أين أنت يا أيمن لتعيد (لنا) كوكب السودان قبل حذفه من المجموعة الشمسية؟
تقرير – وجدي الكردي
هذا مجنون صغير من سليل المجانين الكبار، كان وزنه عند ميلاده في يونيو 1995م، 2600 جراماً “يعني أقل من فرخة سعرها 70 جنيه”.
هضم حروف اللغة العربية جيداً وبدأ مغالطاته في الحياة وهو في الثانية من عمره، كأن يقول: خاء غنماية.. جيم شجرة، ثم يعقبها بضحكة طفولية غتيتة.
أثناء حديثي معه، لاحظت أن الطفل (أيمن حسن سالم جمعة سهل)، يستخدم لغة عربية رفيعة تدين له الآذان، مع الإكثار من مفاتيح الكلمات التي تلج بك إلى آفاق رحبة من الاحتمالات: ربما، لعل، وهي مداخل الشك والتفكيك، كأبهى ما يكون النمط العقلاني للتفكير.
يستخدم أيمن حاجبي عينيه ليخلق من تقوّسهما عبارة تشكيكية جديدة تصفع وجوه جميع الاحتمالات!
والاحتمال عند أيمن، لا يأتي في سياق التشكيك فيما يعرف، بقدر ما يعطيك انطباعاً بأنه يعرف أكثر مما قال، ولكنه يسكت رحمة بجهلك وقلة حيلتك.
(1)
يتدفق شلال الذكاء من مرتفات “المجانين” في شمال كردفان، حيث تفجّر الطفل أيمن ونبع.
قال حسن نجيلة في كتابه “ذكرياتي من البادية”، عن الجد جمعة سهل بأنه: “رجل على حظ من علم الفقه، ويزعم انه ذو بصر بعلم الفلك، وفي الواقع كان أكثر حُذّاق البادية الذين يعرفون ما يُسمى بالمنازل من علم النجوم”.
ويقول أستاذ علم النفس بجامعة الخرطوم، الدكتور عمر هارون مبرراً الذكاء المفرط لأيمن، بأنه من منطقة المزروب، وسليل قبيلة المجانين التي تشبه سُلالات أخرى جديرة بالدراسة مثل المجاذيب في الدامر، والجوامعة الجمرية بكردفان، والبديرية الدهمشية في الشمال، والعكاشاب في مناطق مختلفة من السودان.
تُرى ما الذي يجمع بين المجانين والمجاذيب والجمرية والدهمشية والعكاشاب؟!
يبدو ان بعض هذه السلالات التي تعيش في مناطق مختلفة من السودان، أصبحت مراكزها أشبه بمحاريب مقدسة للعلم وترسانات للتفكير، وربما يجمع بينها التقاليد التربوية الصارمة، وتماثل وضعيتها سلالات أخرى خارج السودان مثل مناطق الأوديسا في آسيا التي أنتجت أعظم مجموعة من الموهوبين والمشاهير في حقل الموسيقى على مستوى العالم، ومناطق دير الرهبان في غرب أوروبا التي طفرت بالعلماء، و(ربما) مناطق الكيبوتس في إسرائيل بتقاليدها الإشتراكية والتربوية الصارمة.
ولأن هذه الملاحظات تحتاج الى دراسات موسعة لبعض المجموعات السلالية في السودان، مثل مشروع لويس تيرمان في أمريكا المختص بالكشف عن الموهوبين ومتابعتهم منذ الصغر، شرع الدكتور عمر هارون بتنفيذها عبر مشروعه (طائر السمبر)، بإجراء المسوح الكشفية عن معامل الذكاء للأطفال السودانيين في هذه المناطق التي تعتبر مناجم للعبقرية والذكاء.
(2)
الذكاء وحده هو الذي قفز بأيمن إلى الصف الثامن وعمره لم يتجاوز العاشرة، ما يعني قبوله بالثانوي في الحادية عشرة من عمره، وبخصم سنوات الفصول الدراسية، يُفترض انه دخل المدرسة في الثالثة من عمره، وهذا ما لم يحدث!
الذي حدث، أن أيمن هرول بسيقان عبقريته الفارهة بين الصفوف.. ولو أن النُظم التربوية لم تكن شحيحة وضريرة وعويرة، لاحتل أيمن مقعده في أرفع الكليات ولم يبلغ العاشرة من عمره، قفزاً.
(3)
ليقفز أيمن بين الصفوف، حصل على معامل ذكاء كلي بلغ 137 درجة، ومعيار التسريع في العالم يحتاج حتى 120 درجة، وهذا يعني أن أيمن فاق المعدل العالمي بــ 17 درجة، كما نال 148 درجة في الذكاء اللفظي بزيادة 28 درجة عن معيار المتوسط العالمي.
وفي “الحتة دي”، للدكتور عمر هارون ملاحظة يجب التوقف عندها. أيمن الذي يقضي 6 ساعات يومياً في القراءة، لا يميل إلى الكتابة، كدأب العارفين من السودانة. ولم ينس عمر هارون تذكيري بعالم الفيزياء السوداني الراحل البروفيسور العبقري محجوب عبيد، الذي لم يترك لطلابه اسهامات مكتوبة وموثقة، بعد أن كان يخطب ودّه العالم!
(4)
العالم على موعد مع البروفيسور أيمن، صاحب السنوات العشر، والبحث الفريد عن النجوم. ومن في سنّه يكتب ما كتب أيمن؟!
في الثامنة من عمره ألقى أيمن محاضرة عن المجموعة الشمسية، وفي التاسعة كتب بحثاً عن النجوم وضع في مقدمته بتواضع العلماء ديباجة تقول:
(بحث من إعداد الطالب أيمن حسن سالم جمعة سهل).
وكتقاليد البحوث الكلاسيكية في كتب التراث، كتب أيمن في خاتمة البحث: (تم البحث بحمد الله وتوفيقه في الثاني من رمضان المبارك 1425هـ الموافق السادس والعشرين من اكتوبر 2004م).
في المقدمة كتب: (اُهدي هذا الجهد المتواضع لأبي حسن سالم، ولأمي ومُدرّستي الأولى، كوثر جبارة، ولأخي الحبيب أسعد).
شمل فهرس البحث عشرين موضوعاً، تتبّع فيه أيمن النجوم من قبل ثلاثة آلاف سنة، وطاف فيه بمؤلف بطليموس في تاريخ الفلك، وعرّج على البيروني والخوارزمي وابن حيّان وابن بطوطة وابن سينا وابو الفدا وثابت بن قرة!
– مين ثابت بن قرّة دا يا أيمن؟!
لم ينس أيمن كعادته الإكثار من كلمات: (الله أعلم، تقريباً، هناك احتمال).
عند سؤاله عن متى تموت الشمس، قال أيمن:
– الشمس الآن في منتصف العمر (تقريباً)، وهناك (احتمال) ان يستمر ضوءها خمسة مليارات سنة!
يتحدث أيمن عن علاقة الأطباق الطائرة بالاضطرابات النفسية فيأخذ بألبابك، وعن المياه والأوكسجين المتجمّد في كوكب المريخ وحالة الإدارة السائلة في نادي الهلال!
يعتمد أيمن، النمط التأملي في التفكير، خلافاً للأسلوب الاندفاعي، وإذا فاته شيء يستدرك بقوله: “نسيت ذكر أن حلقات كوكب زحل..”. ولو حاول الربط بين فكرة وأخرى يقول: “مع ملاحظة ما ذكرناه سابقاً..”.
(5)
سابقاً، كنت أعلم أن للابتسامة قوام وجسد وروح وأطراف، لكنها عند أيمن، جيش يغزو بها القلوب ويحتل الأفئدة.
سألته عن سر ابتسامته العريضة فأجاب بإبتسامة أعرض منها.
قلت له:
– من أين لك هذه اللغة الرفيعة يا أيمن؟
قال: من أستاذ العربي القاعد جنبنا ده.
ثم أشار بفخر لوالده الأستاذ حسن سالم.
– فيم يفكر أيمن الآن؟!
– أفكر في الالتحاق بوكالة الفضاء الأمريكية.
– ليه؟!
– داير اكتشف ليكم كوكب جديد.
– نحن ناقصين كواكب؟!
– أيوه، انت ما سمعت بسحب علماء الفضاء كوكب بلوتو من المجموعة الشمسية؟!
هنا، تداخل الأستاذ راشد عبد الرحيم وكان يجلس جواري وسأل أيمن عن رأيه في سحب بلوتو من المجموعة الشمسية، فطفق أيمن يحلل ويحكي في ثقة العارفين والعلماء، مستخدماً مصطلحات أفرنجية لايصال فكرته، فتركت راشد في متاهته وتخيّلت الكلب بلوتو يقفز من صفحات مجلة ميكي ويلوّح بذيله لنا.. “كان فهمنا حاجة”.
(6)
عزيزي أيمن..
مرت 19 سنة منذ القيتك في مكاتب “الرأي العام” ونشرت هذا النص عنك، و.. “ما زال الحنين”. فهل الشوق والأحلام ما زالت تؤرقك، والسنين؟!
هل كانت أمنياتك “حقاً” يا تُرى، أم كان وهم الواهمين؟!
حين التقيت أيمن داخل هذا “النص”، كان عمره أحد عشر عاماً، و.. “ربما” بلغ الآن 29 سنة..
خرج عمر هارون ولم يعد، وطار السمبر، وتاه الوطن. فأين أيمن ليكتشف (لنا) كوكب السودان قبل ان يخرجه الأوغاد من المجموعة الشمسية؟
▪️الصورة لأيمن، بعدسة إبراهيم حامد في مكتب رئيس تحرير (الرأي العام)، كمال حسن بخيت. حيّا قبره الغمام.
من صفحة الأستاذ وجدي الكردي بـفيسبوك .