باص بيني

تِلغرَافْ

أحمد الرمادي

تلغراف
___

مساء الخير نسرين ..

نعم، لقد وقت طويل مذ آخر محادثة بيننا ، تعرفين أنني لا أحب المحادثات الهاتفية لكنني أكتب لكِ على الدوام عزيزتي ، بسبب الظروف التي تعيشها البلاد كثيراً ما يتعذر الإتصال ، حتى سعاة البريد تقاعدو عن العمل لقد قطعت الطرقات كلها، ونهبت دراجاتهم الهوائية الجميلة تلك ، تقاعدوا يا نسرين ..
لكنّي أكتب لكِ ليل نهار العشرات من القصائد والمكاتيب ،
تعلمين ذلك مسبقا ً ، و تعلمين كم أحبّك ..

ما تذكرت سنَّار قط إلا وذكرتكِ قبلها ألف مرة يا وجهها المجهد الجميل ، ألمح بقلبي من البعيد البعيد وشاحك الأحمر تتلألأ على صحته المدينة ، وتجيئين ، تجيئين في كل مرة تنتخب فيها الحقيقة ذاتها برهاناً يكذب أيّامنا المليئة بالإدعاءات والوهم ،
ما انتظرتكِ قط إِلا وتذوَّقت حلاوة الصبر ..
أبدأ بكِ أولاً كلما بدأ الحديث عن الحضارة ، أسمِّيكِ حاضرة مدينة سنّار ، حاضرة العالم أسمِّيك وأستحي في العلن من جمالك ، و والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لولا مخافتي انتهاك قدسية الجمال لوهبت عمري كله في شرح آيتك للأجيال ، لكنَّه الجمال ، قدسيَّته في غموضه المربك العذب الجميل ،

ثم من أنا حتى أكونك كي اقولك للملأ ..؟!

نسرين التي يغار منها الجمال ،
نسرين حبيبتي ، رفيقة حزنٍ تقاسمناه على القهقهات ،
رفيقة المسافات البعيدة التي وحده القلب من يمشي ضروبها
نسرين أمي ، اختى ،
فردة جناحي التاني وكت الناس تطير لي عالمها ..

أكاد أجزم كلما قرأت أناشيد العودة إلى سنار لشاعرنا العظيم محمد عبد الحي بأنكِ قد سبقت زماننا هذا بالمجيء مبكراً حتى أنكِ سكنتِ في روح المدينة وتفرَّقتِ بعدها في الكائنات ، فخرجوا منك ، الشعراء والمدَّاح والثوار ، رعاة الحنان الأوائل، السادة الأفندية ، رواد بيت الرب ، جهابزة الزمانات والأمكنة ،الثمالى بالفطرة ، مربِّين الأمل ، أرباب الشعر ، المغنّين ، عازفو لحن العذوبة ..
واسألني من تكون ..؟
غير أني في كل مرة أجد فتاةً جديدة لكنها نفسها التي أعرفها
كل مرة ، كل مرة ترفع فستانها القديم ليشطِّف العالم من ساقيها أطفاله المزاجيُّون .. كل مرة

” التي تريد المغادرة ، تلك
مغادرة هذا المكان الخاوي
الضحكات الجافة والعناق الفارغ
تريد خلع هذا الزيف
والاحتفاظ بالقبلات القديمة والأغاني
التي تملأ الأكوان
والثرثرة التي كانت منتصف الليل
والحكايات المقدسة المخفية
تريد الشوارع التي تنبض بتحايا الصباح
والمقهى الذي يغطيه الدخان
ورغبات فتيات الحي اللواتي يتقن إلى الجلوس فيه
تريد البدء
ككل الذين تخلصوا من أثقالهم
وعثروا على ابتساماتهم بعد كل هذا العناء ”

وأراكِ في كل قبيلةٍ أنتِ ، في كل لوحة ، وفي كل بيت ،
مرةً رأيت سرباً من نساء الأمبررو الفاتنات في قرى صعيد القضارف ، يتمشَّين كعروسات في حفل زفافٍ خالد ، تاركين العالم يتنزَّه منتشيًا مثل طفل داخل أرجوحة على ظهور أبقارهنّ، فقلت ياااااه نسرين ياخ ، تهدهد الوجود في هندولها ..
ومرةً كذلك ، كشفت أمامي الحجب ورأيته الجمال، كان يشبهك ، حتى أنَّ أنفه كان كبيرةً ، ذاك النوع الذي يجعل القُبل جديرةً به الجمال بشفاهه السميكة، كان مسرعاً وكأنّ أطفال العالم يصطفَّون له في حجرة فصل دراسيّ ما في مدرسة بعيدة ، مثلما تفعلين دائماً يا قلبي ،
وفي كل مرة يختصّني فيها الله بشرف الجمال اراَك ،
وارآكِ تتأنق بكِ الفساتين ، وتأخذ الأرض زينتها من وقارك ..

عرفت مؤخراً بأنك انتقلت لمدينة بورتسودان ، تعرفين إنهم يطلقون عليها عروس البحر ، الان يؤمنون أهلها بأنهم مخطئون ، كيف لا وأنتِ تحيلينَ الشوارع مسارحًا تحفل بالحياة التي تخلقينها بالتفتل فيها ، تلتقيكِ بأوركستراتها العجيبة ، بطمبورها تلتقيك ، برقصة الكيرن والكِيتا ، والبجا على امتداد الحنان يضمِّدون الأبدية بصمتهم في الأزقة والميادين وعلى ظلال أشجار النيم والرواكيب المعبأة بالإيقاعات والشجن ..

أود أن أقول لك كلاماً كثيراً عن السفر والحرب والبيوت لكنك تعلمين أن اللغة التي نحاول دائماً الاستعانة بها للمواساة تقتلنا ، وأن الكلام بات كله بذيء ويجرحنا في النهاية ،
لكنّك ستعتادين رويداً رويدا على كل شيء ، وستسافرين كثيراً كذلك حتى تكون لكِ ألف بلادٍ وملايين المقاهي والمنافي ،
و تحلمين كل ليلة بالأناشيد ، كل ليلة

” الليله يستقبلني اهلي
اعطوني مسبحةً من أسنان الموتى
ابريق جمجمه
ومصلى من جلد الجاموس
رمزاً يلمع بين النخلة والابنوس ”

أفتقدك في كل يومٍ في كل عام وفي كل مدينة ،
أشعلُ بضراوتك أيامي علها تظل متقدة كأيام الثوار ، وأمرِّنني على اسمك ورسمك ، أمرِّن روحي على الضحكة الساخرة ، وعلى قهوة الظهيرة تحت شجرة قلبك الكبير ..

أحتفظ الان بأغنيتين ، لطالما كنت محتاراً ولعمرى كم حيَّرتني الأغنيات ، أحبّه كثيراً مولانا علي فاركا توريه ، وبالطبع ليس أكثر منك تعلمين ذلك صحيح ..؟! ههه
وحين يتعلَّق الأمر ب علي فاركا توريه لا أشعر إلا برغبة عارمة في السفر لجنوب السودان لأعانق بها الوغد آدم إبراهيم ، أو مشاركتها معك ، لكن الأمور تغيرت الان ..
ولأنه من الصعب جداً مثلاً أن أقوم باهدائك أغنية أشعر دائماً بأن هناك خطأ ما إلى أن قمت أول مرة بإهدائكِ أنتِ إلى الأغنية ، فتباركت ، الان أغنية _ ketine _من نصيب ادووماااي كما هو دائما ً وأبدا ..

أما أنتِ يا نسرين وفي كل مرة أحاول أن أهديكِ فيها لأغنية ما تتهدَّم كلماتها ، ويصير اللحن فيها باهتاً وتتآكل هكذا وحدها تأكل ذاتها وتذوب في النسيان حتى تصير نسياً منسيا ، لاهي تراقص المرء ولا هي تبكيه .. إِلاَّ شجن .. إِلاها يا نسرين ، وكأنَّكِ من فعل كل تلك الأفاعيل ب حسين بازرعة الذي لم / ولن تشفع له عبقرية المرهف عثمان حسين ولا أدائياته الذهبية تلك ،

ما أصلها الأ يام مظالم يا نسرين والعمر غمضة ثواني ..

وأتذكركِ كلما تكتبين عن الحبّ بارتباك عظيم ، أتذكر رعشة قلبك البسيط وأصابع يدك تلوِّح كأنك تحاولين لفت انتباه الوجود ،
أتذكر حزنك النبيل حتى وهو مخلوط بالهبّهان ، و الكومودينات ، طلاءات الأظافر والفساتين المشجَّرة بصمتكِ الأبدي الأنيق ،
لا أنساك يا نسرين ، ولكن إلى متى .. هكذا اقول ..

ولمتين يلازمك في هواك مر الشجن
و يطول بأيامك سهر ويطول عذاب ..؟!

أعرف أنك وحين تقرأين تضحكين بغرض خداعي وكأنّي
لا أعرفك، كيف لا وأنا أعرف بأنك تمشين على الشوكِ بقلبٍ حافٍ لآخر الشارع لأجل وردة الجهنميَّة ، وتغسلين بملح عينيك للأيام أوزارها ، أعرفك يا حبيبي .. اعرفك ، فاضحكي ولكن من غير أن تكذبين فأنتِ لسّه في نضارة حسنك لسه في عمر الدوالي ..

وأشتاقكِ ..
أشتاق للثرثرة على أمور كثيرة لا نجهلها لكنَّا نحرر بسهم
مرادنا الغزالات البعيدة في الدمِ ، أشتاق لكِ على وجه الدقة
والتحديد ، لصوتك ، للكلمة التي تعود لهندامها حين تخرج منك مخضَّبة بالإحتمالات ، لكِ يا نسرين ، لعيونك تشبه فنجانين سمسم القضارف ، لابتسامتك التي يشعل نصفها فقط مجرة درب التبَّانة ناهيك عن قلبي الصغير .. الصغير .

هاهي المدن تتهاوى ، مدينة تلو أختها ، المدن التي شيَّدت بالتضحيات ، كان مهرها أجيالاً من الوسامات والجروح ،
بشوارعها الحيّة ، و معالمها التي تكسر روح الغزاة لأبد الآبدين ، مدن البلاد التي انتفضت وستنتفض باستماتة أبطالها الذين لا ينتهون ، ولن ينتهون ..

إننا بخير ، أقول إننا لأني على الدوام لست وحدي
وإن حل المجاز محل الحقيقة في الرد على السؤال الذي لا تنفكِّين تسألينه بأساليبك متعددة الأمومة يا روحي ..
جميعنا بخير في رحاب رحمة الله الواسعة ، بخيرٍ إِلا من أشواقنا ..

أفكر فيكِ الان ، في المدينة ، في شوارعها التي تعيش أيامها على وقع ذكرى خطواتك على ترابها ، في النوافذ التي كانت تفتح منك شبابيكها ، في النسيم الذي لم يتمرَّن قط إلا على هبوب روحك ، في المقاهي التي تأخذ شعبيتها من مزاجك ،
في السكة الحديد ، في القطارات تودِّع العالم لتستقبلينها ،
في الشجر يا عصافيره ، وفي البنات ، البنات اللواتي تأكلهن
الغيرة من غيابك الوسيم ..

مثلك هو ، وأكثر ..
قال في سرِّه من الأمس

” هل ترى أرجع يوما
لابسا صحوي حلما
حاملا حلمي هما
في دجى الذاكرة الأولى
وأحلام القبيلة
بين موتاي وأشكال أساطير الطفولة ”

ومثله أنتِ ، وأكثر
لكنها الغربة ،
تتشعَّب البلاد حتى أرواحها

وأنا .. أنا
أقول لعينيكِ أغنية ً قديمة

..

وعلى بابك نهارات الصبر واقفات
بداية الدنيا هن واقفات

___

صديقك الكسول _ أ / م
السودان _ القضارف
الجمعة _ ٢٣ _ أغسطس آب _٢٠٢٤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى