حوارات

معز عوض،، أردت أن أقول: اتركوا مشروع حميد يمر للآخرين

الشاعر المبدع معز عوض.. في ضيافة حال الكورة حاوره: محمد أحمد الجاك

مقدمة

  • بتعدي فيك الغربة كم؟

وطنين أو

عمرين

أو

باقي وجعه وباقي حسره

وباقي هم

  • وفي الشنطة شلت معاك شنو؟

حبة كتب

حبة حزن

برواز وتذكار من وطن

ما أظن ألافي بعد أعود

  • وبلدك بتجيهو راجع لو مشيت؟

لو كان هو حي ،

ما كنتَ خليتو بـْ وراي ..

ولو جيتو حي ،

تب ما بخلي يموت وراي

  • وبتفوتو وووين؟

إمكن نموت

أو زهجه ساي نرحل نفوت

الحوار

  • بطاقة تعريفية ؟؟

معز عوض أبو القاسم ، وُلدتُ وترعرعتُ بقرية العريباب شرق مدينة ود مدني وقضيتُ بها أجمل أيامي ، ثم التحقتُ بجامعة القضارف وبعد تخرُّجي عملت بها في وظيفة المشرف الثقافي ، وكنتُ متعاوناً مع إذاعة القضارف بعد أن عملتُ متعاوناً مع إذاعة ود مدني ، وغادرتُ لسلطنة عمان في بداية العام 2012م ثم المملكة العربية السعودية في منتصف العام 2015م وحتى الآن .

  • هل تتذكر طفولتك الشعرية ؟

أذكرُ أنني كنتُ كثير التحديق في الأشياء وكثير الأسئلة ، أنامُ مهموماً بعنزتنا التي قد يشوكها شائكٌ ولا تدري ما تقول .. وبجناحٍ عصفورٍ صغير كسرته الرياح فنامَ بعيداً عن العش . أحدِّق في أي شيء ، وفي الحقيقة هو تحديق داخل الشيء وليس خارجه ، فالأشياء الصغيرة التي لا ينتبه لها أقراني كانت تتعبني جداً جداً ، أذكرُ أنني كنت أقول كيف للطيور أن تعرفَ بعضها البعض إذا كانت على الأرض وأخافتها بنادق الصياد فطارت على الجو .. كيف تواصل ما انقطع من حديث مع نفس الطائر التي كان معها على الأرض . ترهقني عيون العابرين وما زالت ، أرى قصائدَ تتكئ على أهداب الناس في الأسواق وأرى حكايات تحت كل شجرة يتيمة .

  • بمن تأثرتُ في بداياتك ؟

بأمي (بت الحكيم) في المقام الأول ، فهي تسجع الحديث العادي بطريقةٍ مذهلة ، و(تهدهدني) وأنا صغير بقصيدةٍ خاصةٍ بها دون أن تتناول عادية الـ(هدهدات) المعروفة للآخرين . وهذا ما جعلني أنشد التميُّز .. من حكاياتها وأحاجيها كنتُ أصنع السارد الأول والممثل الأول على خشبة الحياة الأولى . معظم الأحاجي التي كانت تحيكها لي في طفولتي ، استخدمتها لاحقاً في قصائدي ومنحَتْهاً بعداً جميلاً .. ثم بالراحل محمد الحسن سالم حميد ومحمد طه القدال وأزهري محمد علي ومصطفى سند ومحمود درويش ذلك الذي غيَّر نظرتي للحياة .

  • أنت بعيد عن الإعلام والأضواء ، لماذا ؟

لا يوجد لدي موقف ضد الإعلام ، ولكن الشاعر لا يتسوّل ولا يركض خلف الإعلام لأنه يرى أن مهمته لا تكمن في إيصال صوته بقدر ما تكمن في تجويد أدواته ومواصلة مسير الأدب الذي حفر لنا السابقون بئره العذبة لكي نرتوي منها . بعض القنوات للأسف الشديد لا تمتلك الدراية الكافية ولا تمتلك الكادر المناسب في إدارة الحوارات ، وبعض القنوات لديها أسماء معينة تستعين بها من وقت لآخر دون أن تكلِّف نفسها عناء البحث عن التجارب الجديدة التي غالباً ما تكونُ خارج العاصمة وهم يحصرون منصاتهم للأقرب وليس للأفضل .. أنا لا أدَّعي الأفضلية ولكن أحسبُ أن لديَّ شيئاً مختلفاً يستحقُ الظهور ، لا لكي أنال الشهرة ، ولكن لأن هذا حق من حقوق المبدع في دولته ، أن يكتب فقط وتتولى الدولة مهمة نشر إبداعه للآخرين . ويؤسفنا أن الدولة هي التي تتولى قتل الإبداع قبل ديسمبر وبعده .

  • أنت شاعر ، ولكن كانت باكورة إنتاجك كتاب مسرحي وليس ديوان شعر ، ما السر ؟

لا أخفيك سراً أنني أعشق المسرح بقدر عشقي للشعر ، وفي المراحل الأولى من دراستي الابتدائية كنتُ مغرماً بالتمثيل وبالارتجال وما زلتُ أتابع المسرحيات بذات الشغف الذي أتابع به منتدىً شعري . والكتاب ليس بعيداً عن الشعر ، بالعكس هو مسرَحة شعرية لقصائد الراحل محمد الحسن سالم حميد بقصائده ومفرداته مع بعض قصائدي وبعض الحوارات العادية بما يقتضيه السياق .

 

  • ماذا أردت أن تقول يا معز من خلال العمل المسرحي ذاكرة وطن مفقود؟

لطالما كان يستهويني المسرحيُّ داخل حِميد ، وكنتُ أرى نصوصه وشخوصه على مسرح الحياة .. ودائماً يتملكني سؤال عن مصير شخصيات حِميد بعد رحيله ، لأنه تركها على قارعة الحياة ورحل بعد أن ترك لها ذاتها وأدواتها وكينونتها الخاصة بها ..

كلما فعلته في كتاب (ذاكرة وطن مفقود) أنني نفحت روح الأدب في هذه الشخوص من جديد وجعلتها تكمل مسيرتها بعد رحيل حميد مع احتفاظي بذات صفاتها (الحِمّيِديه) التي ألبسها لها .. جعلتها تتصارع في ما بينها على أحقّيتها في تملّك مشروع حميد/البيت القديم وتتصارع لبيع تراث حميد/البيت الكبير .

المسرحية تتكون من ثلاثة فصول  ، يتناول الفصل الأول قضية السفر والاغتراب من منظور قصائد حِميد ، والفصل الثاني يتناول قضية الاختلاف على بيع البيت القديم/ مشروع حميد وأيهم أحق به من الآخر ، أما الفصل الثالث فهو يتناول تفاصيل رحيل (عم عبد الرحيم) واستشهاد (الحسين) في قصيدة الرجعة للبيت القديم ، وربطهما بضحايا معركة كورتي ..

في مجمل المسرحية أردت أن أقول اتركوا مشروع حميد يمر للآخرين دون حجر من أي جهةٍ كانت واتركوا شخوصه ونصوصه تعبر عن نفسها كما كتبها هو ، وليس كما يتم تأويلها .

  • باستثناء الشخصيات في ذاكرة وطن مفقود كما ذكر القدال فإن لغة العمل تكاد تكون لغة حميد؟

يسعدني هذا الكلام من أستاذي ووالدي محمد طه القدال ، وهو الذي شرّفني بكتابة مقدمة كتابي (ذاكرة وطن مفقود) ، حاولتُ جاهداً أن أكيّف قصائد حِمّيد مع أحداث المسرحية وتركت الشخصيات تتحاور بمقاطع من قصائد حِمّيد بما يقتضيه الحوار وبما تقتضيه المناسبة ، أضفتُ لها بعضاً من قصائدي التي إجتهدتُ فيها كثيراً لكي تتناسب مع عظمة قصائد حِمّيد وأتمنى أن تكون مفرداتي قد حجزت لها (بمبر) صغير ، بجانب (أريكة) حِمّيد الوثيرة  .

  • لست بالمحلل ولا بالناقد ولكني متذوق مثل الآخرين لذا اقول أن هذا العمل جمع بين بعض الشخصيات التي صنعها حميد في شعره فكان عم عبد الرحيم وحمار مأساته وكانت عيوشه بهيكلها وهيئتها وصفاتها والسرة وحمتو بالإضافة لشخصيات اضفتها انت لتتضافر مع الشخصيات الحميدية في اثراء الحوار والفعل الدرامي ، هل يمكننا أن نقول أن تلك شخصية (الغريب) هي شخصية معز عوض أبو القاسم؟

بالضرورة أن تأتي شخصيات حِمّيد بكامل اكسسواراتها وأزيائها ، فهو وضع لها كل ما يخصها لتنطلق في الحياة ، والجميع يمكنه أن يتخيلَ (عيوشه) كما رسمها حِمّيد ، هنالك أيضاً شخصية (مهيرة بت عبود) وهي المدخل لمعركة كورتي أو ( وادي أم بقر) كما ذكرها حِمّيد في قصيدة تحمل ذات الاسم .

أما شخصية الغريب ، التي يجزم الكل أنها شخصيتي ، فهي شخصية أي شخصٍ سودانيٍّ يحب حِمِّيد ويسعى لتطبيق تعاليم قصائده على أرض الواقع ، وشخصية كل غيور على وطنه وعلى مبادئه ، وقد يكون الرابط بيني وبينها تلك النظارة ، وأنها كُتبت في ذات اللحظة التي كنتُ أحزم فيها حقائبي لسفري الأول لسلطنة عمان بعد أربعين يوماً فقط من رحيل حِمّيد .

  • كيف ومن أين جاء تعلقك بالراحل حميد؟ وما سر ارتباطك الشخصي به لهذه الدرجة؟

كما يقول الشاعر الراحل سيف الدين الدسوقي فإني أهواهُ (مُذْ  كنتُ غراماً في عينَي أم وأبي) .. أنا أعتقد حقاً أنني وُلِدتُ لكي أرى حِمّيد ولكي أشهدَ قصائده وأنتمي لها وله .. وكنت أمازح أصدقائي أنني لابد وأن أكون قد سألت القابلة التي أخرجتني للحياة عن ضمانات الخروج من رحم أمي ، وما إذا كان حِمّيد والقدال ومحمود درويش بالخارج أو لا…  ولو أجابت بالنفي ، لما كنتُ خرجت .

ارتباطي بحميد الإنسان والأب والصديق أكثر من ارتباطي بحميد الشاعر ، وكلاهما جميلٌ ونبيلٌ وصادق .. لهذا كانت فجيعتي فيه أكبر ، لو كنتُ معجباً به فقط ، لنسيته بعد رحيله مثل الآخرين ، .. ولكن فجيعتي تأتي من محبتي الكاملة لشخصه أولاً قبل شعره ..

حِمّيد علمني أكثرَ مما كنتُ أجهل ، ووهبني أكثر مما كنتُ استحق ..

وهبني وطناً على مقاسِ أحلامي ورسم لي ولقصائدي خرطة الطريق ..

باختصار لو لم يكن حِميد لما كان معز.

  • برأيك ما الذي كان يميز حميد؟

يميزه أنه حِمّيد

دعنا نسألك نفس السؤال الذي طرحه قدال هل استفاد معز من هذه المائدة (في ذاكرة وطن مفقود) في خلق عمل درامي بلغة حميد؟

قبل أن أكتب الكتاب ، كنت قد عرضتُ الفكرة على أستاذي القدال الذي مهّد لي الطريق للكتابة مع اعترافه بصعوبة هذه المهمة ، التي كان زادي فيها حبي و(بعض) معرفتي بقصائد حِميد ..

تلك المعرفة جعلتني أتغمص دور كل شخصياته وأتحدث بلسانها عن طريق قصائده ، لهذا جاء الفعل الدرامي جامعاً لكثير من نصوص حِميد ، وكان دوري فقط هو توجيه المقاطع لتخدم الفعل الدرامي الذي أريده ..

استفدتُ من مائدة حِميد في إضافة بعض نصوصي وحواراتي العادية التي استقيتها ذات حبٍ ما من قصائده العظيمة .

  • اعرف أن الحديث عن حميد الأديب ورطة صراحة ومغامرة ومجازفة لأنه ليس بشخصية واحدة ولكن ماذا انت قائل عنه؟

كانَ أبي بكل ما تحمل هذه الكلمة من أبوة.

  • حدثنا عن مشاركتك في برنامج فرسان القصيد بمحطة ام بي سي؟

برنامج فرسان القصيد كان ضمن جائزة الملك عبد العزيز للأدب الشعبي التي يقيمها نادي الإبل مع قناة الإم بي سي ، ومشاركتي كانت عن طريق الصدفة بعد أن سمعت بها عن طريق إعلان مصور بالتلفزيون وشاركتُ فيها على أمل أن أقدم للجمهور العربي أدبنا السوداني الشعبي بطريقةٍ تناسب عظمته وعظمة شعبي .. تأهلتُ بحمد الله حتى نلت المرتبة الرابعة على مستوى الوطن العربي في مضمار الأدب الشعبي .

  • لك عديد من المشاركات في مهرجانات ومسابقات، ماهي أبرز النصوص والأعمال التي قدمتها والجوائز التي حصلت عليها؟

بحمد الله وتوفيقه ، لم أشارك في منافسةٍ إلا وكان لي السبق في مضمارها ، منذُ أول مشاركة لي بالدورة المدرسية وأنا بالصف الرابع . حيث نلتُ وقتها جائزة مقدم البرامج وجائزة الإلقاء الشعري ومن ثم الجائزة الأولى في منافسات جامعات القطاع الشرقي – منافسة الشعر 2005م. وكأس الشعر والميدالية الذهبية على مستوى السودان في مسابقة (صفعات الكلام) العالمية التي ينظمها معهد جوته الألماني 2011م. وكذلك الجائزة الأولى في الشعر – منافسة أندية ولاية الخرطوم الثقافية 2011م. والجائزة الأولى في كتابة القصة القصيرة التي نظمها اتحاد الكتاب السودانيين 2010م. وإحراز كأس الجامعات مع جامعة القضارف في منافسة جامعات القطاع الشرقي . والجائزة الأولى في التأليف المسرحي في مهرجان المسرح الحر مع الجائزة الأولى في المؤثرات الصوتية لمسرحية (الحُرية المُرّة) لذات المهرجان ثم مؤخراً الجائزة الرابعة في مهرجان الملك عبد العزيز للأدب الشعبي .

  • مقارنة ما بين جيل الأمس واليوم من حيث اهتماماته بالشعر والادب السوداني؟

جيل الأمس لم يكن مواجه بالعولمة التي قد يراها البعض مفيدة لهم ، لهذا كان يمتلك الوقت الكافي للقراءة والاضطلاع، وكان وقتها الكتاب ، على قلة توفره ، مصدر المعرفة الوحيد لديهم . لهذا كانت القراءة بالنسبة لهم كل شيء ، أما جيل اليوم ، وهذا لا يدخل ضمن قائمة اللوم ولا قائمة الشكر ، فهو لا يجد الوقت الكافي للقراءة ولديه تحديات أخرى عليه مواجهتها أولاً قبل أن يتفرغ للكتاب ..

وجيلي كان حظه سيئاً إذ لم تأتي عليه حكومةً تكفيه مذلة العناء الذي يمنعه من لذة الجلوس في المكتبات .. فهو مُطارد من كل الحكومات ومقهور وتعيس ، والبحث عن لقمة العيش حرمته متعة البحث عن الكتب النادرة ، لأن أمام الجوع تنهار كل المفاهيم .. ومع ذلك فمعظم جيلي كان يناضل ويتحدى كل الأنظمة لكي يقرأ ويكتب ..

لو سُنحت لجيلي فرصة التفرّغ للأدب ، كان سينجب العدد الأكبر من الأدباء والشعراء .

  • هل هناك أزمة ثقة ما بين جيلكم الحالي من الشعراء والجيل السابق لكم؟

نعم هنالك فجوة كبيرة ، لأن بعض الأجيال السابقة لا تثق في قدرة جيلنا على حمل راية الأدب والثقافة في البلاد ، مع أن بعضهم أيضاً نراهُ غيرَ مؤهلٍ  لحمل الراية .. وهذا لا ينفي وجود بعض الشعراء الذين أخذو بأيدي الشعراء الشباب لبر الأمان .

وجيلي أثبت قدرته وجدارته في قيامه بأعظم ثورة في الوطن العربي ،  ثورة الأناشيد والهتافات وثورة المفاهيم الجديدة التي يراها البعضُ نشاذاً ، وهذا لا ينفي أن هنالك بعض المظاهر السالبة في بعض السلوكيات الأدبية عبر بعض الأغاني الرخيصة والدراما العادية ، ولكن هذا أيضاً لا ينفي عنهم وجود أفزاز في مختلف المجالات الأدبية .

  • كيف نحافظ على تراثنا البسيط وثقافتنا المحلية بمفرداتها البسيطة والسهلة؟

عن طريق الأدب الجاد  ، فهو التدوين الوحيد الذي يضمن نقل التراث من جيلٍ لآخر دونَ تشوهٍ قد يصيبه ..وهذا لا يتأتى بالتنكر للماضي ، بل باستصحابه معنا في رحلة الحداثة والتجديد . وقد لاحظتُ مؤخراً لجوء بعض المطربين لأغاني التراث ، وهذا من الأشياء الجيدة التي يمكن أن تُعيد تسيُّد التراث على الساحة الأدبية مرةً أخرى .

  • ما هو التحدي الذي تعتقد أنه يواجهك من خلال قضايا أبناء جيلك؟

هو ذات التحدي الذي يوجهه كل جيلي من التهميش وعدم التقدير من بعض الأجيال السابقة التي ترانا غير جديرين بمسؤولية الثقافة والأدب بالسودان ، بينما نحن الأجدر والأفضل .. ضف لهذا التحديات السياسية والاجتماعية التي تحول بيننا وبين الانطلاق للعالم .

  • حدثتا باختصار عن القضارف كمحطة مهمة كانت في حياتك العلمية وكيف اسهمت في تشكيل حياتك الأدبية من خلال الجامعة والبيئة والمجتمع المحلي؟

القضارف مدينٌ لها بكل ما هو جميل  ، لأنها احتوتني في طيشي الأول وفي تخبطي الأول ، ولم أكن أعرف عنها أي شيء قبل التحاقي بجامعة القضارف في بداية عام ألفين وثلاثة للميلاد ، ولكني وجدتها مدينةً على مقاسِ أحلامي وعلى مقاس هدوءي  ، فأنا أعشق الهدوء وأكره المدن الكبيرة منزوعة الرحمة ، ووجدت في القضارف ضآلتي ومجتمعي الذي تركته خلفي .

  • أنت متهم بميولك لشعر القضايا ومقل جداً في شعر الغزل؟

الوطن كان على المحك ومازال ، منذُ أن تشكّل وعينا الأدبي ، لهذا فلا مكان للغزل في ظل هذه الظروف ،  مع أن القصيدة الحديثة لم تعد تحمل موضوعاً واحداً كما كانت من قبل ، فداخل شعر القضايا نجد المحبوبة ونجد بعض النوافذ العاطفية ، والعكس صحيح .

  • علاقتك بالراحل القدال؟ وما سر لقب القدال الذي صرتَ تُنادى به ؟

محمد طه القدال من مقومات الحياة بالنسبة لي ، وخلقه الله كجمالٍ موازي لقبح الحياة التي عاشها السودانيين ، ومن حسن حظي أنني اقتربت من هذا العالَم المدهش ، عالم القدال التي كان هو الآخر بذات جمال رفيقه حميد . قبل أن ألتقيه كنتُ أحفظ أشعاره عن ظهرِ حب ، وكانت هي المنارة التي تبحرُ نحوها مركبي المتهالكة .. أعاد لي اتزاني وأعادني لجادة الشعر الصحيحة ومنحني كل الأدوات اللازمة للانطلاق .

كنت أزوره بقرية (حليوه) مسقط رأسه وبمدينة أم درمان حيث يسكن وشرّفني بزيارة لمنزلي وأقام منتدىً شعري على شرف هذه المناسبة .

عن طريقه اهتديتُ لنفسي وللشاعر الذي يسكنني فهو مهّد لنا طريق الأدب ووضعنا على بدايته مشيراً لنا بالتقدم نحو البعيد .. فالعلاقة بيننا علاقة أبوية في المقام الأول قبل كل شيء ، ثم يأتي الشعر لاحقاً .

ولقب (القدال) هو اللقب المحبب لدي والذي كان قد أُطلق علي بجامعة القضارف ، فالكثيرون حتى الآن لا يعلمون اسم والدي . وهذا اللقب له تبعاته وله مسؤولياته الجسيمة ، لأنه يضعني على طريقٍ صعبٍ أتمنى أن أصل فيه ولو لمسافة قصيرة من المسافة الطويلة التي قطعها محمد طه القدال متحمِّلاً كل أصناف الأسى والمعاناة والاعتقالات المتلاحقة التي ظلت تلازمه لأنه كان يغرّد بما لا يشتهي النظام .

  • علاقتك بالراحل مصطفي سيد أحمد وسر زيارتك لقبره بود سلفاب؟

لم تمنحني الحياة فرصة أن أحظى بشرف مقابلة الأستاذ مصطفى سيد أحمد ، ولكني ألتقيته مثل غيري ، في كثير من أغانيه ومشروعه الفني العظيم .. فالثورية التي علّمها لنا مصطفى عن طريق أشعار حميد وقدال هي التي صنعت الثوار الذي يملؤون شوارع النضال الآن ..

وكمثلي من هؤلاء الشباب ، استمعتُ لصوته الملائكي وفُتنت به لأني أراه صاحب قضيه أكثر منه صاحبَ صوتٍ جميل ..

زرت قبره مرتين ، مرةً في العام 1999م وأنا ما زلتُ صغيراً والمرة الثانية صبيحة رحيل حميد في العام 2012م ، جئت له هذه المرة بكاملِ وعيِّ بعيداً عن العاطفة ، بكيتُ معه رحيل حِمّيد و(رفعتَ ليهو الفاتحة) .. بعد أن أخبرته برحيل رفيق نضاله حِمّيد وتركتُ له جريدة تنعيه عبر نعيها لحميد .. لأن حميد رثى نفسه عندما رثى مصطفى ..

تركت الجريدة على قبره وانصرفت تاركاً لهما مساحةً للعناق .

  • ما الذي قدمه لك الأديب والمفكر السعودي عبدالله الشايب وماذا استفدت من هذا الرجل الموسوعة؟ وما الذي اختلف بعد معرفتك به؟

من حسن تدابير الأيام أن جمعتني به وعوّضتني به عمَّا فقدتُ من بلاد .. فالمهندس والمفكر السعودي عبد الله الشايب هو من أجمل وأنبل الكُتاب السعوديين ، وساقتني له رغبتي في اكتشافِ وطنٍ أنسى به مرارة المنفى ، ولم أكن أدري أن الأيام تخبئ لي الأجمل ، وأنا الذي لفظني وطني وصرتُ أبحثُ عنه في ثياب العابرين.

منحني وقته وجهده وعلمه وصرنا قاب أخوين أو أكثر .. في كل مرةٍ ألتقيه كنت ألتقي بنفسي التي تركتها في المطار بانتظار تأشيرة احتضار ، يمدني بالكتب مثلما يمدني بالمحبة والتقدير ، وعلى ضفافه وجدتُ موطأ أدبٍ لي . كانت الغربة قبل أن ألتقيه مملة ولا حياةَ فيها . فقط يتأرجح يومي بين المكتب والمنزل  ، وبعد أن ألتقيته صارت الغربة ممكنة العيش وفتح لي آفاقاً جديدة لكي أرى من خلالها وأعادني للكتابة والقراءة من جديد ..

  • ماذا عن كتاب(منتصف الليل)؟

الكتاب هو نتاج العلاقة النبيلة التي جمعتني بالمفكر عبد الله الشايب ، فقد كلفني بكتابة مقدمة كتابه ، وهذا لعمري أصعب تكليف يمكن أن يُكلّف به شاعر ، وهو التقدمة لقامة أدبية مذهلة مثل عبد الله الشايب والذي جُمعت المقدمات التي كتبها  للكُتاب في مجلدين ضخمين لأن الجميع كان يهرول نحوه  لينالوا شرف أن تزيّن حروفه صفحات كتابهم .

كان التحدي الأكبر والأجمل بالنسبة لي ، وقد حاولتُ ما وسعني ذلك التنصّل من هذا العبء الكبير لأن هذا يفوق مقدرتي ، ولكنه كان مُصراً على كتابتي للمقدمة التي كلّفتني ثمانية أشهر اجتهدتُ من خلالها في تناول الكتاب من وجهة نظري محاولاً أن أضع محبتي له جانباً وأنا أكتب ، وقد فشلتُ في هذا الحياد .. وأتمنى أن أكون قد نجحتُ في أن تنام مقدمتي مع حروفه تحت سقفِ غلافَ كتابٍ واحد .

  • ثورة ديسمبر المجيدة ماذا اضافت/اخذت من السودانيين؟

كان لابدّ وأن يكمل السودانيون رسم الاسكتش النهائي لثورتهم التي بدأت منذُ الانتفاضة العظيمة في أكتوبر 1964 وحتى ديسمبر 2018 ، لأن كل الإرهاصات كانت تشير لحدوث ثورة عظمى وشيكة بعد أن تجبرت وطغت كل الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت البلاد ..

وديسمبر العظيمة كانت خلاصة التجارب التي مررنا بها وخلاصة الفعل الثوري الذي صنع شباب ديسمبر من خلالها أعظم ثورة عرفها التأريخ لأنهم ضربوا فيها أفضل الأمثال في الاستبسال والشجاعة والوعي المتقدم ، فديسمبر لم تكن ثورة على النظام فقط ، ولكنها ثوره ضد كل المفاهيم العقيمة التي ظلّت جاثمة على صدورنا ، ثورة على العنصرية ودعوة للمساواة ، ثورة على الظلم الاجتماعي ودعوة لعدالة المحبة ، ثورة على الحرب التي قصمت ظهر بلادنا ، ودعوة للسلام الجميل .

تلك الدماء الطاهرة التي زيّنت أرض السوداني ، راح ضحيتها العشرات من خيرة الشابات والشباب الذين وهبوا نفسهم عن طيبِ حبٍ لبلادٍ رسموا خريطة عشقها في دواخلهم وأصبحوا ينامون ويستيقظون على ذلك الحلم . وهي أن يرسمون وطناً كما يحلمون به لا كما يرسمه لهم ساستنا الأغبياء ، والدرس كان كبيراً لكل الشعب السوداني الذي عرف أخيراً أن الشارع صار متيقظاً وبصيراً بشؤون بلاده ويعرف جيداً كيف تُدار وكيف تثورُ وتُثار .

ثورة ديسمبر أعادت للشعب السوداني هيبته من جديد ، وكنتُ أرى هذا من خلال تواجدي هنا . وأذكر يومها أنني كنتُ مصاباً بكسرٍ في رجلي اليمنى ، وهذا ما أقعدني عن اللحاق بركب الثوار في ميدان الاعتصام ، وكنتُ أسيرُ على عصايتين . فحين سقط البشير للمرة الأولى تخليتُ عن عصاتي الأولى . وحين تنحى ابن عوف تخليت عن عصاتي الثانية فمازحني مديري عن سر هذا ، وقلت له إنني من بلادٍ أزاحت رئيسين في يومين ، فلستُ ضعيفاً لتسندني عصا .

ما أردتُ قوله أننا ، أو أنني ، من حينها وأن أتكئ على هذه الثورة التي أذهلت العالم .

  • ما الذي ينقصنا كسودانيين لاستعادة بلادنا المخطوفة؟

ينقصنا أن لا نرتدي سوى جلباب الوطن الواحد ، بعيداً عن الاختلافات والانقسامات .. وأن نضع العنصرية والجهوية جانباً ونحترم بعضنا البعض كسودانيين في المقام الأول بعيداً عن أي صفة وأي لون .

باختصار نحنُ نحتاج للدولة التي بنيناها بساحة الاعتصام ، والتي ذابت فيها كل الخلافات والجهات وتقاسم السودانيين سودانيّتهم على مائدة حبٍ واحدة .

إذا توحّد الهدف ، توحّدت القلوب وصار المستحيلُ سهلَ المنال .. فلا مناص سوى أن يتوحّد الشارع من جديد وأن يعودَ لديسمبر من جديد لكي يبني دولته التي أرادها .

  • رسالة للفرقاء السودانيين؟

انظروا للوطن بمنظار الشهيد عبد العظيم ، لا بمنظار الكرسي والمنصب .

  • ما هو جديد معز القادم؟ نصوص شعرية.. أعمال مسرحية.. الخ؟

أنا من صنف الشعراء الذين لا تنتهي قصائدهم أبداً ولا يضعون لها نهايتها ، أترك قصائدي مفتوحةً لإلهامٍ جديد ولفكرةٍ جديدة .. وإن كنتُ مقلاً في الكتابة إلا أنني أترك القصائد على مزاجها ، تأتيني متى ما شاءت ، لا كما أريد ..

لدي عدد من النصوص الجديدة التي لم تكتمل منذ انفصال الجنوب الذي سبب لي شرحاً لا يمكن أن يلتئم من جديد . وديوان بالعامية السودانية (الخروج للداخل) تحت الطبع ، وديوان بالفصحى (وطنٌ تحت السلاح) لم يكتمل بعد ، ورواية (القطار الأعمى) لم تكتمل بعد ، وكذلك كتاب (شِقَيْ تمرة) وهي رسائل أدبية بيني وبين الأديب السوداني عبد الله الشايب .

كلمة أخيرة:

لك من الشكر أنبله صديقي و(سِنيَري) محمد أحمد الجاك وأنت تحاول أن تجمّل قبح الأيام بهذه الاشراقات الجميلة التي لابد وأن تثمرَ جيلاً رائعاً .. وأتمنى التوفيق والسداد لصحيفة نبض المهاجر الإلكترونية .

حــــــوار محمد احمد الجاك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى